بقلم : اللواء نبيل أبو النجا

بقلم : اللواء نبيل أبو النجا *

كان منزلنا في بلدة ميت غمر مكونا من طابقين وأسفله عدة محلات وورشة حدادة وبرادة, عم حامد مشرف الحركة في أتوبيسات الدلتا يشغل الطابق الأول وعائلته ونحن في الطابق العلوي أما المحلات فكانت مصنع لحلويات المولد ومحل تسالي (لب وسوداني...) وهما ملك المقدس ذكي (قبطي) ومحل قومسيونجي فاكهة وخضروات للحاج دسوقي (مسلم) وورشة حدادة للأسطى سيدهم (قبطي) ومعمل ألبان للمهندس صبحي (مسيحي) وكانت العمالة في هذه المحلات من المسلمين والمسيحيين ويعملون في أخوة ومحبة لا يمكن وصفها.
وفي ميت غمر توجد عشرات الكنائس حيث كان يقطنها جالية كبيرة من الإجريك (اليونانيين) العاملين في مصنع حلج الأقطان في البلدة وتوجد مدارس راهبات الفرنسسكان والميرديدييه ونوتردام ديزابوتر وليسيه الحرية وغيرها وكذلك توجد عشرات المساجد والجمعية الشرعية الإسلامية لإمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمة الله عليه حيث أنه من ضاحية دقادوس التابعة لمركز ميت غمر والملاصقة له وكانت توجد جمعية الشبان المسلمين التي يمارس فيها الشباب على اختلاف دياناتهم الرياضات المختلفة حيث كانت الرياضة محور اهتمام الجميع وهناك الساحة الشعبية على كورنيش النيل وكانت تفرخ لمنتخبات مصر أبطالا عديدين لا فرق بين قبطي ومسلم ويهودي حيث كانت هناك حارة في البلدة شأنها شأن كل مدن وقرى مصر تسمى حارة اليهود ويعيشون فيها كأي مواطن مصري ويعيشون متحابين مع الجميع تظلهم سماء مصرنا الغالية وتحفهم المودة والرحمة ويسود بينهم الحب والتسامح.
عشت حياتي من الطفولة وحتى الشباب أجمل سنوات عمري, لم أعرف أن أبله عايدة جارتنا التي أرضعتني نظرا لمرض أمي رحمة الله عليهما قبطية إلا وأنا في الصف الثالث الإبتدائي حينما قلت لابنها الذي يقاربني في العمر (عزت وديع) تعالى معايا صلاة الجمعة فرد على قائلا روح انت يا نبيل احنا بنروح الكنيسة لأن احنا أقباط وكانت أبله عايدة وعم وديع رحمة الله عليهما بالنسبة لي مثل أهلي تماما ونعيش سويا ليل نهار كأننا أسرة واحدة تجمعنا تقلبات الحياة بحلوها ومرها ونشاطر بعضنا البعض الأفراح والأتراح ونقتسم اللقمة سويا, وكان جارنا الآخر عم وليم رياض مدير محطة أتوبيس الدلتا (قبطي) وكانت أسرته أيضا شبه مقيمة معنا ولم أشعر يوما بأنهم ليسوا أهلي وإخواني وأحبائي حتى اليوم برغم مرور 65 عاما هي رصيد عمري, وكنا نذهب لمولد السيدة العذراء في قرية ميت دمسيس التابعة لمركز ميت غمر وتستمر أيام المولد لأكثر من شهر كل عام ويتوافد السياح من كافة أرجاء العالم لحضور هذا المولد الذي كنا ننتظره جميعا وكان عيدا للبلدة كلها ولم لا ورسولنا الكريم قد تزوج السيدة ماريا (مريم) القبطية وأنجب منها ابنه الوحيد ابراهيم ولم لا ونحن لا يكتمل إسلامنا إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, فالديانة اليهودية من عند الله والتوارة كتابها والديانة المسيحية من عند الله والإنجيل كتابها والديانة الإسلامية من عند الله والقرآن الكريم كتابها.
في بداية الستينييات دخل التليفزيون مصر وكان أخي الأكبر (عزت) رحمة الله عليه بطلا للجمهورية في الملاكمة ونظرا لكثرة سفرياته أصبح عنده الكثير من المال واشترى جهاز تليفزيون (باي 17) كأول جهاز يدخل المدينة, وكنا نفترش الصالتين في المنزل ويفتح الباب للجميع ونجلس نترقب مباراة كرة القدم والجميع على الأرض, عائلتي وعائلة المقدس ذكي وعم سيدهم والمهندس صبحي وعم دسوقي القومسيونجي وعم ويلم رياض وعائلته وعم (اسحق اليهودي) وعائلته الذي كنت أذهب إليه قبل العيد كي أحصل على الفكة اللازمة للعيدية وكل واحد جايب معاه اللي يقدر عليه, لب وسوداني وفاكهة وأبو فروة ولبن حليب وقشدة ونظل نشاهد المباراة ونهلل سويا ونتعارك أحيانا في محبة ولطف ونذوب سويا في روح الأسرة الواحدة حيث لا فرق بيننا على الإطلاق لأننا جميعا بشر ومن نسل آدم وحواء وقد نختلف في أشكالنا وصورنا وطباعنا لكن قلوبنا عامرة بالمحبة والسعادة والتسامح والتعاون من أجل حياة أفضل, كانت هذه الجلسات ولا زالت ماثلة أمامي ومحفورة في ذاكرتي حتى وأنا أصعد البناية التي أسكن فيها الآن ولا يعرف الناس بعضهم بعضا ويديرون ظهورهم لبعضهم البعض وتجد فرحاً في شقة وجنازة في أخرى في الوقت نفسه ولا تراحم ولا محبة ولا جار, الجار الذي ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يوصى صحابي به حتى ظن أنه سيورثه.
عندما تقدم بي العمر والتحقت بوحدات الصاعقة بالكتيبة 43 صاعقة, كنت أقضي الإجازة مع زميلي ودفعتي ورفقة عمري الملازم سامي وديع ميخائيل مرة عند خالته في شارع نوال بالدقي ومرة عند أخي في ميدان تريومف بمصر الجديدة وكان سامي اسكندراني وخفيف الظل لأبعد حد لدرجة أنني لا أستطيع فراقه أبدا وكنا سويا دائما ولم يفرقنا سوى الواعظ الصامت (الموت), حيث كانت الكتيبة عائدة توا من رأس العش ببورسعيد ولقنت العدو الصهيوني درسا قاسيا وانتقلت إلى إنشاص في آخر العام 1967 لإعادة التنظيم وسد الخسائر واستكمال الأسلحة والمعدات بعد العملية التاريخية التي قامت بها.
شعرت أنا وسامي بالفخر حين الانضمام لكتيبة الأبطال وكان التدريب على قدم وساق ليل نهار لتحريرالأرض والعرض واسترداد سيناء الحبيبة من دنس الصهاينة, ولكن القدر لم يمهلني كثيرا حيث اختطف زميلي وصديق عمري سامي وديع ميخائيل حيث استشهد في التدريب أثناء طابور تدريب بالذخيرة الحية حيث انفجرب فيه قنبلة يدوية عند اقتحام موقع هيكلي مشابه لمواقع العدو.
مات سامي ميخائيل فداءً لمصرنا الغالية وقدم الروح والدم قربانا للعزة والكرامة, أيكون جزاؤه ما يحدث الآن في مصر من فتنة طائفية وعار علينا جميعا؟!!
صحيح أن هتلر أباد أكثر من 50 مليون مسيحي كاثوليكي في الحرب العالمية الثانية وهو مسيحي وقامت أمريكا بقذف هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية وقتلت عشرات الآلاف من البشر في اليابان وهناك العديد من الأمثلة على الشر في كل مكان, لكن في أرض الكنانة, مصر العروبة والمحبة والتسامح والسلام, لا وألف لا, نحن جميعا فداء لمصر, لا فرق بين مواطن مصري مسلم وآخر قبطي, إننا رمز المحبة والتسامح والتعايش والإخاء, ارحموا مصر يا من جعلتم الأمم تضحك من جهل أمتنا الآن, يا أئمة المساجد, يا قساوسة الأقباط لا تفرطوا في زرع الكراهية والبغضاء والعداوة لأن النار ستحرق الجميع, إنني أسمع بعض الأئمة ينادي باللعنة والدمار والهلاك لليهود والأقباط أعداء الدين !! هل هذا داعية وإمام؟ هل شققت عن قلوب هؤلاء؟ هل علمت أن عاهرة أدخلها الله الجنة لأنها سقت كلباً ظمآناً بنعلها؟ هل وليتم أنفسكم ولاية تحاسبون الناس بها بدلا من المولى سبحانه وتعالي والعياذ بالله؟ هل نصبتم أنفسكم تحاسبون وتعطون وتمنحون وتمنعون؟ "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم", " ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر", " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (صدق الله العظيم).
إنها قلوب تحترق من الغل فتحرق من حولها وأصبح أصحاب العقول المقفولة جمهرة وفي مواقع المسئولية وما أقسى أن يكون الواعظ لصا وأن يكون الكذاب داعية إنني أسخر من نفسي أو أجعل نفسي تسخر مني, إن رسولنا الكريم محمد الأمي الذي أضاء بنور الرسالة البشرية لم يقبل ان يهلك الله قومه حينما آذوه وهم في أشد جبروت الكفر والطغيان, لقد تقولوا عليه ورجموه بألسنتهم فحاربهم بالحب وقال "اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون" وجعل قلبه مطمئنا بالإيمان, لقد تزوج رسولنا الكريم من السيدة مريم القبطية وأنجب منها ولده ابراهيم فكيف تحرمون تناول الطعام من أهل الذمة؟!! كيف تشرعون عدم جواز إلقاء السلام عليهم؟!! كيف تشرعون عدم الوقوف على قبورهم والسير في جنازاتهم؟ كيف تقولون إن الله لن يغفر لهم أبدا؟!! إن هذا سوء أدب مع الله, أأشركم الله في الحكم؟ أم أخذتم عهدا على الله؟!! هل البشر في حاجة لوسيط منكم للتقرب إلى الله؟ من أنتم؟ إن اللسان تحول إلى إنسان منكم, عودوا إلى الله وارجعوا لدينكم ليرى العالم أجمع ما هو الإسلام وماهي عظمته وسماحته وسمو رسالته, لا تشغلوا أنفسكم بالذقون وتقصير الثياب وحف الشوارب فهناك الأركان الأساسية الخمسة للإسلام فلنعمل بها ثم نستكمل الأساسيات وبعد ذلك ننظر للفرعيات ولا تجعلونا أضحوكة في نظر العالم الذي يصدر لكم العلم والطعام والشراب والعلاج والطب والمعدات وكل شئ ومع ذلك "حسنة وأنا سيدك", نريد أن نعتنق التفكير لا التكفير ولنعلم أن دفء القلوب يذيب الجليد وأن أول طريق لمعرفة الله هو الحرية.
إن منطق التكفير واحد ومنطق التفكير واحد وأدوات التفكير هى الاستقراء والاستنباط والملاحظة والتجريب ويقع العقل في الخطأ ألف مرة ليصل إلى الصواب مرة, أما التكفير يكون منطق المكفر حينما يفقد أدوات التفكير.
إن جماعة الإخوان المسلمين ضلت الطريق, كانت تريد أن تصل إلى السياسة والحكم وكانت تريد أن تصلح السياسة بالدين فأفسدت دينها بالسياسة لأن السياسة تصيب وتخطئ أما الدين فهو من عند الله وحاشى لله أن يخطئ, لا نريد أجسام الديناصورات وعقول العصافير, نريد أناسا يعرفون الله ويتقونه حق تقاته إننا سنخرج من تبعية العباد لتبعية رب العباد.
هل نسيتم أن عم المصطفي صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب الذي تربى النبي في كنفه منذ ولادته وكان أحب الناس لقلبه مات قبل أن يسلم لله رب العالمين وقبضت روحه وهو على غير الإسلام, فهل يعني ذلك عدم جواز سير النبي في جنازته والوقوف على قبره والدعاء له؟!! أفهتم ذلك ودرستموه جيدا؟ الرسول صلي الله عليه وسلم تربى وعاش ونشأ في كنف عمه أبي طالب, وكان يأكل من طعامه ويقضي الليل والنهار في داره وهو غير مسلم, إنه الرسول الأمي الكريم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين وضياءً ونورا مبيناً وبعثه ربه متمماً لمكارم الأخلاق وليس لعانا ولا فظا غليظ القلب, رحمة الله عليك يا رسول الإسلام وهادي البشرية ومعلم الإنسانية.
إن قوة العقيدة تكمن في مقدار الحرية التي تعيش فيه فلا قوة لعقيدة بدون حرية لأن العقيدة الصحيحة تأتي من الرغبة وليس الرهبة, حافظوا على الوطن والأرض والحرث ولا تحرقوا أنفسكم ونحن وإخوة الوطن معكم, نريد أن نتخلص من التعصب والطائفية ولا ننتمي لغير الله لأننا جميعا لا نشرك بعبادة ربنا أحدا.
وأدعو الله تعالى أن يتغمد شهداء مصر الأبرار في فسيح جناته, الشهداء من كل الأجناس والأديان لأن كل من دافع عن ماله وعرضه وعقيدته فهو شهيد عند الله, وحفظك الله يا مصر يا أم الدنيا ولا تحزني فإن مع العسر يسرا وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه البشر أن الدنيا "متر أرض وشوية تراب" وأن الحياة أيام معدودة فحري بنا أن نحياها في سلام ورحمة ومودة.
------------------------------------------
* لواء متقاعد - وحدات الصاعقة
nabil.aboualnaga@gmail.com
قراءة 110 مرات اخر تحديث فى الأربعاء, 10 أبريل 2013 13:53