شهداء الرأي في التاريخ الإسلامي.. حجر بن عدي

شهداء الرأي في التاريخ الإسلامي.. حجر بن عدي.. راهب أمة محمد
السبت 21 يوليه 2012 - 12:48 م رمضان جانا

شهداء وضحايا الرأى فى التاريخ الإسلامى
بعد عام الجماعة وتنازل الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان لإنقاذ أمة محمد، كتب الحسن لجنوده بمبايعة معاوية يروى ابن الأثير فقام قيس وهو قائد مقدمة جيش الحسن فى الناس فقال: أيها الناس اختاروا الدخول فى طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام. فقال بعضهم: بل نختار الدخول فى طاعة إمام ضلالة. فبايعوا معاوية. هذه الرواية تلخّص تصور العراقيين لملك معاوية، وكان الملك معاوية على علم تام بهذه الحالة من عدم الرضا، لذا كان شديد القلق مِن العراق ومَن فيه، فكان يرميهم بأدهى ولاته وأعنفهم حتى تستقيم الأمور كما كان يظن. لقد كانت الكوفة جيشا ألقى سلاحه طاعة لأميره لكنه لم يستسلم أو يعترف بهزيمة، وقد أدى الظهور الكبير للخوارج واستفحال خطرهم إلى التعاون بين جيوش الشام والعراق لوقف هذا الخطر.

استمر الحال على هذا التعاون بين شيعتَى علىّ ومعاوية لعشر سنين، ولم تكن كلمة «شيعة» تعنى أكثر من «أنصار»، ففى ذلك الوقت لم تكن حرب العقائد قد بدأت نظرا إلى الهدوء السياسى، لكن تضرر هذا التوافق بين الفريقين حين ابتدع معاوية وولاته بدعة غريبة فأخذوا يسبون علىّ بن أبى طالب على منابرهم. يقول ابن الأثير: «أقام المغيرة عاملا على الكوفة وهو أحسن شىء سيرة، غير أنه لا يدع شتم علىّ والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له».

لقد أغضب هذا السبّ نفوس الناس لكن أحدا لم يستطع الرد لقوة وسطوة ولاة معاوية، سكت الجميع إلا رجلا واحدا قام مُغضَبا، وردّ على المغيرة بن شعبة وسبه ولعنه، يقول ابن الأثير: «كان حُجر بْن عَدِىّ إذا سمع هذا السب لعلى قال: بل إياكم ذم الله ولعن! ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكّون أولى بالذم».

لقد كان حُجر بْن عَدِىّ -بضم الحاء- صحابيا كريما من فضلاء الصحابة كما قال ابن عبد البر، وفد على النبى (صلى الله عليه وسلم) هو وأخوه، وقال عنه ابن عساكر كان مع الجيش الذى فتح الشام، وقد شارك فى معركة القادسية، وهو الذى فتح مرج عذراء فى بلاد الشام، ويقول الذهبى وكان شريفا، أميرا مطاعا، أمّارا بالمعروف، مُقدِما على الإنكار، من شيعة علىّ (رضى الله عنهما) وشهد صفين أميرا، وكان ذا صلاح وتعبُّد»، وقد شهد معارك علىّ.

كان حُجر من وجهاء الكوفة وواحدا من أبرز رموزها، وقد تعددت اعتراضاته على المغيرة حتى هدده المغيرة والى الكوفة بوضوح قائلا: «يا حُجر اتقِ هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك، ثم يكفّ عنه ويصفح».

ثم تطور الأمر بأن شجّع موقف حُجر عددا قليلا من الناس على مناصرته فى الاعتراض على سب أمير المؤمنين علىّ. يروى الطبرى أنه انضمّ إليه ثلث المسجد، ويروى آخرون أنهم لم يزيدوا على الثلاثين.

لقد شكّل حُجر بْن عَدِىّ حالة من المعارضة السلمية تجاه الاعتداءات المتكررة على شخص أميرهم الروحى، والحق يُقال أن المغيرة كان رجلا كما يقول ابن كثير: «فيه حلم وأناة فكان يصفح عن حُجر ويعظه فى ما بينه وبينه، ويحذره غبّ هذا الصنيع، فإن معارضة السلطان شديدٌ وَبالها، فلم يرجع حُجر عن ذلك». لقد استخدم المغيرة التهديد الصريح فلم يفلح فتحول إلى الترغيب وحتى الرشوة، فقد نقل الدينورى فى الأخبار أن المغيرة استرضى حُجرا بخمسة آلاف درهم ولكن حُجرا لم يتوقف.

توُفّى المغيرة فى عام 50هـ فضمّ معاوية الكوفة إلى والى البصرة زياد بن أبيه وكان أول من حكم المصرين معا، وكان زياد رجلا فظا غليظ القلب يسبق سيفه لسانه، واجتمع على كرهه كل المسلمين، لما اشتهر عنه من استهتار بحرمة الدماء والقتل بالشبهة، فقد كان سفاحا بمعنى الكلمة، يروى المسعودى أنه «لما سمع أهل المدينة المنورة بتوليتها زياد بن أبيه اجتمع الكبير والصغير بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقدّموا ابن عمر فاستقبل القبلة ودعا معهم، وكان من دعائه أن قال: اللهم اكفنا يمين زياد، وضَجّوا إلى الله تعالى، ولاذوا بقبر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، لِعلمِهِم بظلمه وجوره وفسقه».

والعجيب أن زياد كان من شيعة على لكنه تحول بعد الصلح إلى سفاح لبنى أمية، ويذكر اليعقوبى أن زيادا عندما قدم الكوفة خطب خطبة مشهورة لم يحمد الله فيها ولم يصل على محمد، وأرعد فيها وأبرق، وتوعد، وتهدد، وحذرهم ورهّبهم.

وقد كان عالما بشيعة على، وهذا ما دعاه إلى استدعاء حُجر بْن عَدِىّ مع أولى لحظاته بالكوفة وقال له كما يروى ابن سعد: «تعلم أنى أعرفك وقد كنت أنا وإياك على ما قد علمت، يعنى من حب على بن أبى طالب وإنه قد جاء غير ذلك (أى أنى تحول حبى وولائى لمعاوية)، وإنى أنشدك الله، املك عليك لسانك وليَسَعْك منزلك، وهذا سريرى فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدى، فاكفنى نفسك وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستنزلوك عن رأيك»، لقد كان تهديدا عنيفا وواضحا من سفاح عتيد.

وقد تعددت الروايات فى بداية خلاف حُجر بْن عَدِىّ مع السفاح زياد، فيروى ابن كثير فى البداية والنهاية: «وجعل زياد يقول فى خطبته: إن من حق أمير المؤمنين -يعنى كذا وكذا- (أخذ يعدد حقوق معاوية عليهم) فأخذ حُجر كفا حصباء فحصبه وقال: كذبت! عليك لعنة الله».

وهناك رواية أخرى فيها أن حُجر وأصحابه تجرؤوا على خليفة زياد فى الكوفة عمرو بن حريث حين لعن على بن أبى طالب وحصبوه (رموه بالحصا اعتراضا) وهو يخطب فأرسل إلى زياد فجاء وقبض عليه.

إن الأمر لم يخرج فى أى رواية عن طور المعارضة السلمية، لكن الطغاة لا يقبلون إلا الرضوخ والذل وهذا ليس من أخلاق حُجر، أمر الطاغية شرطته بالقبض على حُجر، وقد توقع حُجر ما سيتم، فأساليب كل الطغاة واحدة من قديم الأزل، يروى الطبرى: «إن حُجرا لما قفى به من عند زياد نادى بأعلى صوته اللهم إنى على بيعتى لا أقيلها ولا أستقيلها سماع الله والناس»، يؤكد حُجر ثبات بيعته لمعاوية بصوت عالٍ ليقينه أنها ستكون وسيلة السفاح زياد الوحيدة ليقضى عليه، فالرجل ليس ممن يشكَّك فى دينه فيشكَّك فى ولائه.

وافتح المحضر فى تاريخه وساعته وبلا سؤال للمتهم أو دفاع عن نفسه أحضر سبعين شاهدا وشهدوا كتابةً، ينقل الطبرى نص شهاداتهم: «هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبى موسى لله رب العالمين شهد أن حُجر بْن عَدِىّ خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء»، «فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا أما والله لأجهدن على قطع عنق هذا الخائن الأحمق». لقد أصدر المحقق الحكم قبل أن يحقق، ويكمل الطبرى: «فشهد عليه سبعون رجلا، وكُتبت الشهادة فى صحيفة وكُتب فى الشهود شريح بن الحارث القاضى وشريح بن هانئ الحارثى فأما شريح فقال سألنى زياد عنه فأخبرته أنه كان صوّاما قوّاما»، هذا ما قاله، بينما وضع زياد اسمه على النص السابق زورا وعدوانا، ونكمل والرواية كلها من الطبرى: «وأما شريح بن هانئ الحارثى فكان يقول ما شهدت ولقد بلغنى أنه قد كُتبت شهادتى فأكذبته ولمته»، هكذا حاكم الطاغية صاحب رسول الله بمحاكمة صورية بشهادات مزورة أو بشهود لم يشهدوا، لقد أقحم السفاح زياد أسماء الوجهاء ليغلق المحضر وينهى القضية، إنها عدالة الطغاة وسلوك شرطتهم فى كل زمان.

وفى أثناء ترحيل حُجر إلى معاوية بالشام التقى بناته خارج الكوفة، يروى الطبرى: «فإذا بناته مشرفات، فقال لمن يقتادانه: ائذنا لى فأوصى أهلى، فأذنا له فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن ساعة ثم قال: اسكتن! فسكتن، فقال: اتقين الله عز وجل واصبرن، فإنى أرجو من ربى فى وجهى هذا إحدى الحسنيين: إما الشهادة وهى السعادة وإما الانصراف إليكن فى عافية، وإن الذى كان يرزقكن ويكفينى مؤنتكن هو الله تعالى وهو حى لا يموت، أرجو أن لا يضيعكن وأن يحفظنى».

وصل حُجر بْن عَدِىّ إلى معاوية والمحضر منتهٍ فأصدر حكمه بأن «خُذوه واضربوا عنقه»، يروى ابن الأثير: «فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حُجر بْن عَدِىّ : اتركونى أتوضأ وأصلِّ، فتركوه، فصلى وقال: والله ما صليت صلاة قط أخف منها، ولولا أن تظنوا فىّ جَزَعا من الموت لاستكثرت منها. ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك (يقصد علىّ بن أبى طالب) وندعك. فقال: وما لى لا أجزع وأرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا! وإنى والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يُسخِط الرب. فقتلوه».

لقد مثَّل مقتل صحابى صدمة كبيرة للمجتمع الإسلامى كله، لقد كان تحولا كبيرا فى شكل العلاقة بين الحاكم وكل المحكومين، فليس فى المجتمع بأكبر من منزلة الصحابى وها هو ذا قد قُتل، لقد تزلزلت ثوابت المجتمع بقتل الشهيد حُجر بْن عَدِىّ، وقد استنكر ذلك كل الصحابة، سألت عائشة معاوية كما نقل ابن كثير قال: «لما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة فقالت: أقتلت حَجَرًا؟ فقال: يا أم المؤمنين إنى وجدت قتل رجل فى صلاح الناس خيرا من استحيائه فى فسادهم». لقد قتله لوجه الله وحمايةً للوطن، وما ندرى مَن الذى كان فى موته صلاح وفى حياته فساد!

وصدق الحاكم فى «المستدرك» حين قال عن حُجر: «هو راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

تعليقات القراء